فنون الضمة وأنسنه الحياة

فنون الضمة وأنسنه الحياة

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان المصري جورج بهجوري

 لعبت الفنون التي استحدثها القادمون إلى مدينة الإسماعيلية دورا بارزا، وكانت بمثابة العون الذى أنسن حياة المتعبين من قسوة العمل والغربة، وجعلها مقبولة رغم وحشتها، وجعلهم يشعرون بالدفء والحميمية التي افتقدوها بتركهم لمدنهم وأسرهم وأحبابهم وأصدقائهم، وعلى رأس تلك الفنون الغنائية جاءت فنون الضمة على آلة السمسمية، التي تعد أحد أدوات أبناء المنطقة في مقاومة الوحشة. فقد كانت حاضرة دائماً بكل تعبيراتهم وممارستهم الحياتية ففي أفراحهم وانتصاراتهم وانكساراتهم وتحدياتهم، حيث يتجمع أبناء المدينة العاملين بالمشروعات المختلفة، في حي العرب المخصص لإقامتهم، والذي يوجد به محال البيع والشراء والمقاهي وأماكن الترفيه، بعد انتهاء أوقات العمل لتقام حلقات السمر والسمسمية، يلتف الحضور بشكل دائري ليستمعوا ويشاهدوا فنون الـضمة التي يشارك فيها كل الموجودين بالغناء والرقص، وقد احتضنت الأمسيات العديد من أشكال الغناء المصري الوافد من بيئات ثقافية متنوعة، كما شاهدت الأفراح والمناسبات المختلفة، التي كان أصحابها يحرصون على دعوة الجميع إليها، لخلق حالة من التواصل الإنساني في ذلك المجتمع الجديد، فقد كانت تلك الفنون رمزاً للبهجة، وكان حضورها أشبه بضروريات الحياة في المناسبات العائلية السعيدة والاحتفالات الوطنية، وحتى بالمنافسات الرياضية، خاصة بالساحات وملاعب كرة القدم، ولم تكن السمسمية تلك الآلة الوترية البسيطة تعمل بمفردها في كل هذا. بل كان معها بعض الأدوات المصاحبة كآلات الإيقاع المختلفة، ومعظمها من الأدوات البدائية ومفردات البيئة، إضافة إلى الزجاجات الفارغة والملاعق “ملعقتين مقلوبتين” والأدوات المعدنية المتوفرة، وأصوات تعبر بأكثر مما تطرب، وكلمات سهلة، خاطفة، لكنها هادفة وشجية، تداعب الوجدان بتلقائية شديدة، مع التصفيق على الكفوف، ومؤدون لرقصات السمسمية المختلفة وكلهم من الرجال، حتى أن البعض منهم كان يقوم بتقليد رقص النساء إذا تطلب الدور ذلك، خاصة في السنوات الأولى للحفر، حيث كان المجتمع يعيش حالة ذكورية شبة كاملة، وقد درب كل الوافدين ذائقتهم لاستقبال تلك الفنون الجديدة، التي صُنعت على ايديهم وعيونهم، وسيطرت على وجدانهم وعقولهم وثقافتهم وورثوها لأبنائهم وأحفادهم، فبساطة الكلمات وصدق الإنفعالات وعزوبة الأنغام كلها كانت جوازات مرور تلك الفنون لقلوب وعقول محبيها حيث لا ابتذال أو سخف أو تدنى، لذا كان حضورها في شتى مواقف الحياة، حضور سجل وعبر عن كل ما تتمتع به المنطقة من مفردات إنسانية وطبيعية بديعة، فقد غنت تلك الآلة الساحرة للأبيض والأسمر، لسمك السهلية والبوري وأم الخلول، لثمار المانجو والفراولة للحدائق والخضرة والمية وطيور النورس والدراويش، تغني للقادة وللجندي البطل والرياضي الحريف، كما رصدت لنا تلك الفنون البسيطة تنوع ثقافة أبنائها، واختيارهم عن حب لآلة السمسمية، لتكون هي المعبر عن فنونهم بل وحياتهم الجديدة، لما لا وقد مثلت تلك الآلة طوال فترات البناء والمقاومة والنضال معنى من معانى الوطن، بل معنى الوطن نفسه، فهي لم تكن مجرد آلة موسيقية، بقدر ما كانت حالة من حالات العشق الصوفي البديع ، نسجت فيها العلاقة بين الناس والبلد حتي صاروا شيئا واحدا، فالوطن هو هؤلاء الناس الذين ذابوا عشقا في حب أرضهم وغنوا ورقصوا علي أنغام السمسمية، حتي تركوا أجسادهم علي الأرض، وحلقت أرواحهم تحلم بالمستقبل وترسل رسائل المحبة والحنين إلي مدنهم البعيدة. ومع الوقت تحولت تلك الآلة إلى رمز يدل على هذه المنطقة وثقافتها وفنونها، حيث لعبت الأقدار والمآسي دورا كبيرا في تبنى أبناء المدينة لتلك الآلة وفنونها على مر تاريخها القصير، فأغاني السمسمية وفرقها المختلفة كانت تتصدر المشهد النضالي في كل المواقف الصعبة، حتى أنها كانت هي السمة المميزة لأبناء تلك المنطقة طوال حرب الاستنزاف، فالمقاومة الشعبية في هذه المدينة كانت جزء من حياة الناس اليومية، أو بمعنى أخر كانت إيقاع حياة، مقاومة بالسلاح تارة وبالفن تارة أخرى، وقد قامت فرق السمسمية خلال سنوات التهجير في بث روح المقاومة والصمود من خلال تأجيج مشاعر المصريين أثناء الحرب والتبشير بنبؤه النصر ورفع راية مصر التي ستعلو وترفرف فوق الجراح، للدرجة التي جعلت البعض في ذلك الوقت يصفها بأنها أقوي من السلاح، حيث استطاعت أن ترفع معنويات الجماهير وأن تعبئ مشاعرها لصالح المقاومة علي جبهات القتال، والدفاع عن مدنهم وحياتهم وشرف وكرامة الوطن، وقد أصبحت فرق السمسمية كتائب فنية مقاتلة قائمة بذاتها بسبب المرحلة الطويلة التي مرت بها، وتراكم التجارب والمواقف الكثيرة، حتى أن البعض يعتبرها أصدق مؤرخ لكل أحداث ومعارك تلك المدينة، ومع إدراكنا أن تلك الفرق كانت تشكل قوة هائلة، إلا أن أحدا من كتاب التاريخ أو مسجلي وراصدي تلك الفترات عبر الكتابات المتنوعة والسير الذاتية، لم يولهم الاهتمام الذى يستحقونه، وان تم ذكرهم يكون على استحياء من خلال بعض الإشارات الهامشية، والتي يحتلونها عادة في خريطة الصور الذهنية لدى الأجيال التاريخية السابقة.


على ضفاف البحيرة

في مديح القناة

الإسماعيلية.. باريس الصغرى

موسيقى النوارس

سردية المقاومة والحياة

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s