د. حمدي سليمان
اللوحة: الفنان المصري حسين بيكار
يرى أبناء قناة السويس أن للسمسمية فلسفة خاصة، فهي عالم قائم بذاته، على أنغامها يتحرر الإنسان من مخاوفه وأحزانه ويتجاوز الصعاب، يقترب من أحلامه ومباهجه من جوهر الحياة في أقصى معانيها شفافية، ليصبح أمام نفسه مجردا من كل شيء، لا يريد إلا الغناء والاندماج والوصول إلي حالة السلام النفسي ومحبة الحياة، كما أنها ذاكرة عبقرية حفظت الكثير من فنون الغناء المعبر عن الحياة والمقاومة من الاندثار والضياع، حيث كانت أداة التعبير عن حب الوطن وكل ذرة من رماله.
كما كانت رمز للفـن الجـمـيـل والأصـيـل، المشـحــون بــعـــرق مــن حـفــروا القــنــاة بدمـائهم، ومـن دافـعـوا عــن الأرض وحــرروهــا، لذا نخشـى ذهـابـه مع أشـيـاء جـمـيـلـة أخـرى ذهـبـت وحـل مـكـانـهـا قـبـح شـديـد، وقد امتد تأثير تلك الآلة وفنونها على أنواع الكتابة الأدبية، وفي مقدمتها الزجل بألوانه المختلفة وشعر العامية خاصة الغنائي منه، وهو أمر طبيعي أن يخرج من رحم هذه الفنون الشعبية في منطقة القناة، كل أنواع الزجل واشعار العامية، وكان من رواد فن الزجل في منطقة القناة “أبو هندية” زجال الإسماعيلية ورائد الصحافة الإقليمية، الذي ولد في بدايات القرن الماضي وزاع صيته وانتشرت اشعاره في كل أنحاء مصر، فقد كان شاعرا وزجالا موهوبا، صدر له سبع دواوين شعرية، ونشرت أعماله في الصحف والمجلات، وكان أول صاحب مجلة محلية في الإسماعيلية، وهي مجلة “رسائل الفنانين”، وحصل على جائزة نقابة الممثلين والموسيقيين في مهرجان الزجل بالغربية عام 54، وربما كان أبو هندية قريب من جماعة الإخوان فترة الأربعينيات، عندما كان يشغل سكرتير الجمعية الخيرية الإسلامية بالقنطرة شرق، لذا اعتبره بعض أبناء الجماعة من رواد الزجل الإسلامي! وكان من مجايليه الزجال حسن بيومي، ثم جاء من بعدهم الشاعر والزجال حافظ الصادق الذي ارتبط اسمه بفرقة “الصامدين” في فترة التهجير، وكانت أيقونته الرائعة وأيقونة فرقة الصامدين أغنية: “علي هدير المدافع..على الآدان على.. كبر واملا المسامع.. عبي الدانات غلي” التى لحنها الفنان عبده العثمللى وأصبحت نشيد وطني لكل أبناء الإسماعيلية والقناة، وفي نفس المجال كان هناك حسن الجداوي وسعيد سلام وسيد أبو العنين وغريب موسى ومحسن أبو زيد ومن القنطرة شرق علي نظير.. وغيرهم الكثير، وقد تربت هذه الأنواع الأدبية ومنتجيها في أحضان أغاني السمسمية، لذا كانت ومازالت ضمن الأنواع الأدبية الأكثر انتشارا وشعبية في مجتمع القناة، حيث تتميز تلك الألوان الزجلية بالبساطة في المعنى واللفظ والتراكيب والصور، ويتفاعل معها أبناء المنطقة بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والفكرية، فهي تعالج الموضوعات التي تهم الناس، ففيها الوصف والغزل الصريح والبطولة والمقاومة والدعابة والمفارقة وخفة الدم، كما أنها تعكس حب الوطن والتضحية من اجله لما تحمله من معاني الوصف الاجتماعي والتاريخي والمقاومة، وتستدعي نوعاً معينا من الأداء الذي يمتاز بكونه صارخاً ومباشراً وجماهيرياً، لا تعنيه جماليات الفن بالدرجة الأولى، بقدر ما ينعيه توصيل رسالة وإشعال حماس وتقديم اعتراض ورفض واضح، وهي معاني يشترك فيها المبدع والمتلقي على أرضية واحدة وهى حب هذا الفن الذى يعبر عنه ويميزه ويميز مدينته في نفس الوقت.وبعد العودة من التهجير ظهر جليل جديد من شعراء العامية الذين اكتسبوا خبرات متميزة عبر قرائتهم المتنوعة، وإنفتاحهم على الحركات الأدبية في القاهرة ومحافظات مصر المختلفة، وهو ما مكنهم من أن يمتلكوا أدواتهم ويطوروا من شكل ومضمون قصيدة العامية، إضافة إلى أنه لم يكن لفنون السمسمية تأثير كبير على أشعارهم، رغم حبهم واعتزازهم بهذا الفن وتماهيهم معه، نذكر منهم: الشاعر عبده المصري ومحمد يوسف ومدحت منير وإبراهيم عمر، ثم جاء جيل أخر من الشباب سار على نفس الدرب، منهم الشاعر جمال حراجي وخالد حريب وعبد الله الهادي وأسامة مرسي وفايز الجبالي ومحمد عبد الوهاب الصعيدي وجلال الجيزاوي، مرورا بالجيل الحالي ومنهم الشاعر عمرو حسن وفتحي نجم وسعيد عبد المقصود وصلاح نعمان وشادية الملاح وأكرم حسن.. وغيرهم من الشعراء الذين تزخر بهم الحركة الأدبية في الإسماعيلية.