اللوحة: الفنان المغربي يوسف الحداد
لم تكن القهوة مجرد مشروب كسائر المشاريب يقدم للضيوف في بيوت النخبة، بل محور لجملة من الطقوس والآداب المرتبطة بها كما جاء في المقالات السابقة، وبالتالي دراسة آداب القهوة في تلك الفترة من تاريخ مصر والقاهرة إنما هي بشكل من الأشكال دراسة للحياة اليومية لجماعة النخبة، بهدف التعرف على قيمها وسلوكياتها والمعايير التى حكمتها وشكلت تصوراتها عن نفسها وعن الواقع المحيط بها، فالحرص على هذه الآداب والطقوس وغيرها من آداب ارتبطت بنواحي مختلفة في حياتها اليومية، عكس سعيها الدؤوب وانشغالها الدائم، خلال الحقبة المملوكية، بتحقيق تمايزها الاجتماعى والعمل على جعله واقعاً ملموساً بشتى الوسائل، وهو ما حكم هذه الفترة حتى مشارف القرن التاسع عشر.
إذا كانت الدراسات السابقة قد بينت بعض الوسائل التي تظهر تمسك هذه النخبة بتأكيد تميزها مثل: التشديد على قصر امتياز امتلاك المماليك والجوارى وركوب الخيل، وما تعلق بمظاهر الإسراف فى الإنفاق على الهيئة الاجتماعية، وحتى تحديد ألوان الملابس التى تم استعمالها فى تصنيف المجموعات الأثنية والدينية.. إلخ، فإن القهوة هنا، بكل ما ابُتكِرَ حولها من آداب وطقوس، تكشف عن وسيلة أخرى لجأت إليها هذه النخبة وعملت على توظيفها فى سياق إحساسها المعقد بضرورة تمييز وضعيتها الاجتماعية والابتعاد بناموس حياتها عن مظاهر التبسيط التى يجب – من منظورها – أن تظل سمة لحياة كل من كان دونها فى السلم الاجتماعى.
ولذلك لابد من النظر إلى تمسك هذه الطبقة بهذه الآداب وحياكة هالة اجتماعية حولها وعدم التساهل مع من لا يراعيها من الخدم على أنه نوع من التمسك بسلوك يرسم حدود تموضعها في المجتمع، ويبرز تميزها عن باقي طبقاته؛ فطريقة تقديم القهوة والأدوار المحددة لمقدميها، وكذلك شكل الأدوات المستخدمة والتي يجب أن تعكس ثراء المضيف، كلها ترسم صورة دقيقة لمكانته وثرائه، ويبرز ذلك بشكل جلي في الاهتمام المبالغ به بالأواني الخاصة بتقديم القهوة والحرص على أن تكون من الفضة ومطعمة بالجواهر الكريمة أحياناً، إضافة إلى آداب شرب القهوة التي تعكس نوعا من السلوك الاجتماعي الراقي البعيد كليا عن سلوك عوام الشعب.
المقهى فضاء «ملعون»
لذلك كلما ابتعدنا عن «ثقافة القصور» كلما كانت درجة التمسك بالطقوس والتقاليد المصاحبة لشرب القهوة تقل بالتدريج، لتتسم عند الطبقات القابعة فى نهاية السلم الاجتماعى، بالطابع العملى البسيط، والمتحرر من سطوة الالتزام بالقواعد والمعايير التى تشكل ايديولوجيا الاستهلاك؛ فيجرى تناولها بطريقة تلقائية من دون تحفظات سلوكية صارمة، سواء داخل المقاهى أو فى فضاء المزارع حيث كانوا يتجمعون زرافات على شاطىء النيل، يشربون القهوة ويدخنون التبغ، ومن يرد منهم الراحة والاسترخاء يخلد إلى النوم سريعاً. ومن منظور الفئات المحافظة فى المجتمع سوف يُنظر إلى المقهى على أنه مكان سيئ السمعة، وخاصة بعد أن بات غاصاً بالعاطلين (البطالين) واﻷراذل والغوغاء والسوقة، وتردد الراقصات والغواني عليها، وبيع اﻷفيون والحشيش بها أحيانًا، فضلاً عما كان يسببه الازدحام عليها من صخب وضجيج أناء الليل وأطراف النهار. ومن هنا لم يكن غريباً أن نجد المرأة فى بعض عقود الزواج ( التي تعود إلى القرن الـ 17 م) تشترط على زوجها «ألا يدخل بيت القهوة».
تحول المقهى إذاً إلى فضاء عام يتردد عليه أخلاط الناس وعوامهم لا يقوم التفاعل بينهم على الصلة الحميمة التى تحكمها قيم تبادلية، فضاء تمارس به سلوكيات تتخطى الصفة المعيارية للآداب والأعراف المقبولة من المجتمع المحافظ. ولم تفت هذه الملاحظة علماء الحملة الفرنسية وهم يجوبون المدن والأقاليم وقد استوقفتهم المجموعات الاجتماعية المترددة على المقاهي مؤكدين «بأن الأثرياء – وحدهم – الذين يعدون قهوتهم في بيوتهم ولا يترددون مطلقاً على هذه الأماكن». بيد أن ذلك لم يقلل من قيمة القهوة نفسها فى الحياة اليومية، وفى آداب الاستقبال والضيافة على وجه الخصوص؛ حيث ظلت علامة على الكرم والاحتفاء الخاص المفعم بالود والمؤانسة.
أثر التحديث على النسق الثقافى لشرب القهوة
ظلت نزعة المحافظة Conservatism على استمرارية تلك الطقوس حتى القرن التاسع عشر، لكنها فيما يبدو بدأت تخبو وتفقد أهميتها بالتدريج نحو ثلاثينيات القرن التاسع عشر: فالمستشرق الإنجليزى إدوارد وليم لين (1835-33)، كمراقب مشغول ومعنى برصد الثابت والمتغير فى عادات المصريين فى ظل مخاض التحديث، سجل ملاحظته الدقيقة التالية: «إن العادة المنتشرة بين الأغنياء برش الضيف قبل نهوضه للرحيل بماء الورد أو بماء الزهر، وتعطيره بطيب زكى قد بدأت تختفى منذ سنوات». وهذه العادة كانت تمثل مسألة أساسية فى الاحتفاء بالضيف، مما يعنى أن طقوس الاستقبال والضيافة المرتبطة بالقهوة طالتها بعض رياح التغيير.
ويجدر بنا النظر إلى أن هذا التغيير الجزئى فى الطقوس اليومية المعتادة لم يحدث بصورة مستقلة أو منفصلة عن مختلف التطورات التى انتجتها عملية التحديث. ولذلك يتعين عند تفسير هذه النتيجة أن نأخذ فى الاعتبار تأثير التغيرات الهيكلية التى أدخلها المشروع الإصلاحى لمحمد على باشا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ وذلك باعتبارها أسباباً موضوعية للتخلى عن بعض مظاهر الإسراف فى التقاليد الشكلية المتضمنة فى طقوس الاستهلاك. وكانت أهم االمتغيرات الجوهرية فى مشروع التحديث متمثلة فى: تغير هيكل السلطة بتحولها إلى الإدارة المركزية، تحول النظام الاقتصادى من معيشى تقليدى إلى اقتصاد موجَّه، تعتمد سياسته بشكل أساسى على الترشيد وزيادة الإنتاج، النمو الحضرى، التصنيع، تفكيك التشكيلات الاجتماعية السابقة…إلخ). وأكد عالم الاجتماع الشهير«انتونى غِدِنْز» أن مثل تلك التغييرات بإمكانها أن تعمل (وبصورة متفاوتة فى كل مجتمع) على التقليل من آثار القواعد والتقاليد الموروثة، مما يسمح بحدوث تحرر من بعض الأنماط القيمية والسلوكية التى كانت فى السابق تتسلل بصورة ثابتة من جيل إلى جيل.
وفى ضوء ذلك يمكن الافتراض بأن تغير بعض طقوس الاستقبال والضيافة فى القرن التاسع عشر قد جاء نتيجة لتغير اجتماعى وثقافى عام. ونعتقد بأن أهم ما كان له تأثير مباشر فى ذلك، كان راجعاً بالأساس إلى الإطاحة بالمجموعات الممثلة لنخبة القرن الثامن عشر التى كانت راعية لهذه الآداب والتقاليد والقواعد: فلم تعد النخبة فى عصر التحديث مُشكَّلة، كما فى السابق، من أمراء البيوت المملوكية أو مجموعة كبار الأعيان (تجار وعلماء)، وهما المجموعتان اللتان تعرضتا للإقصاء السياسى والاجتماعى؛ وفيما تم تنحية الأولى عن السلطة، وتصفية قوتها العسكرية جسديًا، عبر مذبحة القلعة (1811)، ومطاردة الفلول المتبقية منها حتى بلاد الحبشة، تم إضعاف نفوذ المجموعة الثانية (وبالأخص جماعة العلماء) والحيلولة بينها وبين التداخل فى أمور السلطة وسياسة البلاد. وقد عبَّر كلوت بك – باعتباره شاهد عيان على هذه التجربة – بوضوح تام بقوله: «كان لطبقة العلماء فى عهد سابق تأثير عظيم فى نفوس الناس وقيادة آرائها.. غير أن الوالى قلب صرح هذا النفوذ، فجعل عاليه سافله؛ إذ انتزع من أيديهم الأملاك الواسعة.. فأصبحوا لهذه الأسباب ولا شىء بيدهم من السلطة وقوة التأثير لا على الأمة ولا على الحكومة».
إعادة هيكلة «النخبة»
أعادت هذه العملية الاجتماعية الصعبة هيكلة بناء جماعة النخبة بصورة تدريجية لكنها حاسمة فى الوقت نفسه؛ حيث أدت مركزية الدولة والمشروع الإصلاحى إلى خلق نخبة جديدة عُرِفَت فيما بعد باسم «الذَّوات» أو «الذَّوات المُعتبرين»، الذين جاءت جُلَّ أصولهم من الأتراك والأرنؤود بالإضافة إلى الشَّركسوالأكراد والأَرْمن والشَّوام، وهم الذين كان يجمع بينهم التمسك باللُّغة التركيَّة باعتبارها لغة النُّخبة،وبالثقافة والعَادات التُّركيَّة، يزاحمهم على استحياء وبصعوبة بالغة حفنة من المصريين (ممن أُتِيحَتلهم فرصة التعليم فى عهد محمَّد على باشا وارتقاء بعض الوظائف الكُبرى)؛ ومن ثم جاءت هذه النخبة من أصول اجتماعية وثقافية مختلفة، تؤمن بأفكار ومعتقدات وعادات وقيم سلوكية مغايرة، فضلاً عن أنها تأثرت بخضوعها إلى حد كبير للتوجهات المركزية التى تطلبها المشروع النهضوى آنذاك، مما يفترض معه حدوث تغير موازٍ – بدرجة ما – فى نمط المعيشة والقيم الاجتماعية والسلوك الثقافى العام. ويجب الاعتراف بأن هذه المسألة ما برحت تحتاج إلى المزيد من الدراسات التحليلية التى تتقصى معرفة ما تغير وما استمر فى منظومة القيم الثقافية والاجتماعية خلال عملية التحديث التى مثلت قوة ضاغطة على المجتمع وموجهة له فى الوقت نفسه نحو مسار تحكمه قيم ومعايير مختلفة.
في المقال القادم سنتناول أثر التغيرات الاجتماعية العميقة التي حدثت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، والتي زلزلت أركان النظام الاجتماعي ثم أسقطته وأطاحت بنخبته، ناقلة إياه إلى نمط حديث رأسمالي، صاحب ذلك ولادة نخبة جديدة مختلفة كلياً بعاداتها وسلوكها وقيمها، فأصبح ادخار المال واستثماره قيمة بديلة عن تبذيره على الترف والإنفاق الشرفي.
- أهمية القهوة ومكانتها في العالم المتوسطي والعثماني
- القيمة الرمزية للقهوة في آداب الاستقبال والضيافة
- مائة عام حتى انتقلت القهوة من المقاهي إلى بيوت النخبة
- «قهوجية».. بثياب موشاة بالذهب
- فنجان القهوة يرسم حدودا فاصلة بين الطبقات في القاهرة العثمانية
- قهوة «البكوات» بفناجين مرصعة بالماس والجواهر
- آداب وطقوس صارمة في تقديم القهوة وتناولها