السرد على حواف مدينة الأسماعيلية

السرد على حواف مدينة الأسماعيلية

د. حمدي سليمان

اللوحة: الفنان السعودي عبد الله الشيخ

ظهر السرد القصصي متأخراً في مدينة الإسماعيلية ومنطقة القناة، وعلى يد فرادى من الذين ذهبوا لاستكمال تعليمهم الجامعي بالقاهرة، وعادوا محملين بهذا النوع الأدبي، الذي لم يكن له مريدين ولا جمهور يسانده، حيث ظل السرد القصصي في مجتمع الإسماعيلية لفترة طويلة يزدهر سرا على حواف المدينة، شارحا ما لم تسمح القصيدة غالبا بالإفصاح عنه، نظرا لانشغال الشعراء أيامها بقضايا ما بعد الانفتاح الاقتصادي، وكامب ديفيد، وما حملت به الفترة من حروب اجتماعية واقتصادية جديدة، بين الشعب المصري بقيمه الحضارية والنضالية وبين الطبقة الطفيلية الجديدة، ممثله في طبقة التجار والسماسرة والمستوردين بقيمها المغايرة والمضادة، وهى الحرب التي شملت مصر كلها خاصة مع دخول العولمة، من هنا احتل ما أطلق عليه أيامها “الهم الاجتماعي والسياسى” مساحة كبيرة من الواقع الشعري، أما السرد فظل هناك يسجل ما بقي من ذكريات أليمة لفترة التهجير، مع رصد عابر للواقع الاجتماعي، كما تشهد على ذلك أعمال الأديب فؤاد طلبة ونحاس راضي، فقد كان معظم أدباء هذا الجيل من منطقة القناة، يمثلون امتدادا مباشرا لتراث الواقعية المصرية في تلك المرحلة. 

بشكل عام لم يجنح السرد في مجتمع القناة نحو الرواية، وانحصر اهتمام المبدعين بالمفارقات الأقصوصية المتناثرة، المجموعة على ظهر صوت شعرى، خافض أحيانا وصاخب في أحيان أخرى، وفى المرحلة التالية كما نرى في أعمال علي سعيد الكيلاني ومحمد عبد الله عيسى ابن الاسكندرية الذى اضطره عمله في شركة قناة السويس للإقامة في الإسماعيلية، وفيها كتب معظم أعماله، ميل إلى السرد الروائي القائم على المزاوجة بين الواقعية والافق الشعرى على مرجعية السيرة الذاتية، بما هي المرجعية البديلة عن المرجعية الايديولوجية السبعينية، مما يجعل منها خطاب أقرب لما يكون إلى الشهادة الأدبية الرثائية على ما آلت إليه الأوضاع، فمعظم إبداعات هذه الاجيال كانت تدور حول الحروب التي شهدتها المنطقة، وخاصة هزيمة 67 ومآسي فترة التهجير، وما ترتب عليها من أزمات إنسانية، فقد كانت مصر بكاملها مسرحًا لتغيرات اجتماعية واسعة المدى، وكانت مجالًا لاحتكاكات إنسانية مهمة، ومسرحا لتبادل خبرات اجتماعية غير مسبوقة، حيث كانت أزمة التهجير جزءًا رئيسيًا من التحولات، فقد تم تهجير معظم سكان مدن القناة إلى عمق مصر، فقد أنتقل أهالي مدن القناة إلى الدلتا والصعيد والقاهرة، ونزح ما يزيد على مليون نسمة من سكان مدن القناة الثلاث، وما حولها من قرى ومراكز، وانتقلوا إلى مدن أخرى حاملين معهم أسلوبهم في الحياة، الأكثر انفتاحا، إلى قرى ونجوع ومدن كانت أكثر محافظة، ومن هنا كان لابد للطرفين، أن يتكيفوا مع بعضهم البعض قليلًا، وأن يتدافعوا فيما بينهم كثيرًا، وهو ما كان له أثر بالغ على نفسية أبناء تلك المدن ومنهم بالطبع أدبائها، الذين صوروا تلك المعاناة في إبداعاتهم التي تعتبر وثائق تاريخية. عموما ظل الولاء السردي لتراث الواقعية المصرية قائما، عند الأدباء نحاس راضي ومحمد عيسى القيري وعبد الحميد البسيوني، وربما تحتاج تجربة القيري و البسيوني إلى المزيد من ألقاء الضوء، خاصة وانهما من هذا الجيل الذي استمر عطاءه الإبداعي والثقافي لفترة طويلة، فمنذ أن جاءا إلى الإسماعيلية في منتصف ثمانينات القرن الماضي للعمل والاستقرار، وهما سرعان ما أنخرطا في حراكها الثقافي، حيث كانا يحملان وعيا إبداعيا ونفسا سرديا مغايرا، جعلهما في فترة زمنية قصيرة من أهم رموز تلك المدينة على المستويين الأدبي والثقافي، فقد ظل كل منهم يعزف على أنغام سرديته التي تتسم بالجرأة والتمرد على الأفكار والموضوعات التقليدية، فقدما لنا نصوص تتسم بعمق النظرة والخيال الخصب، نصوص يسكنها ولع معرفي شاسع تجاه المسكوت عنه في العلاقات الإنسانية، وربما ذلك ما جعلهما رغم قلة إنتاجهما أحد أهم علامات المشهد السردي في منطقة القناة، وبشكل عام يمكننا ملاحظة أن بعض أبناء هذا الجيل كان لديهم جنوح متزايد نحو الانغماس في عوالم الفنتازيا، فلدى هذا الجيل تعاد صياغة الواقع بتناقضاته العديدة، الواقع الذى يحتل العالم الداخلي للشخصيات بلغة سردية تمثل في حد ذاتها انتصارا جماليا للفرد المغترب المطرود من المدينة إلى الأماكن الطبيعية المفتوحة كالبحر والحدائق، وهو المنحنى الذى سيتكرر بكيفيات مختلفة عند الجيل التالي، ومنهم صفية فرجاني وجمال عبد المعتمد وشريف سمير ومحمد إبراهيم محروس ومحمد البنهاوي، حيث تلاحظ أن القصة عند هؤلاء كانت تدور في إطار الواقعية الشعرية. المفعمة بالإحساس الممزق بالهامشية، والمهمومة بالقضايا الإنسانية النوعية، التي ظهرت مع تغير الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، وكان لديها رغبة في التحرر من المركزية بكافة أشكلها، لذا حاولت التجديد على مستوى الشكل والمضمون، وقد جرى كثيرا من الماء في نهر الإبداع في مجتمع الإسماعيلية منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إلا أن نصيب السرد (قصص قصيرة، روايات) منه ظل قليلا، قياساً بالأنواع الأخرى، خاصة شعر العامية الطاغي على المشهد الأدبي في تلك المدينة، وقد تلاحظ في التجارب الجديدة القليلة مشتركات تجمعها مع ما يطلق عليه حركة السرد الجديد بشكل عام في مصر، حيث تحمل الكثير من التجارب السردية الجديدة، هموم خاصة، بمعنى أن معظم كتاب السرد من جيل الشباب أصبح مشغولا بروحه فقط، يكتبها خالية من عوالقها، يبحث عن حقيقة تخصه وموضوعات تمتعه هو أولا، موضوعات ربما تتجاوز التجربة الشخصية وتصنع تماس مع الآخرين، وربما لا يتحقق ذلك لكنه اختيار شخصي، لا فرض اجتماعي، فالمبدع حتى ولو كان يوثق العفوي المباشر لمعطيات الواقع اليومي النابض بالفعل الإنساني، فهو يقدمه من وجهة نظره، عبر رؤى فنية وجمالية سردية جديدة، إلا أن الكثير منهم ينقصه الفهم العميق لنوعية وطبيعة التناول الأدبي للوجود الإنساني.


على ضفاف البحيرة

في مديح القناة

الإسماعيلية.. باريس الصغرى

موسيقى النوارس

سردية المقاومة والحياة

فنون الضمة وأنسنه الحياة

الزجل وشعر العامية

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s